المخرج الفلسطيني مصطفى أبو علي في حوار مع
"المستقبل":
الكفاح المسلّح كان موضة النضال في
السبعينات وكان التيار الثقافي العام في
المنطقة
المستقبل - الجمعة 27 حزيران
2008 - العدد 3000 - ثقافة و فنون - صفحة
20
ريما المسمار
استضاف نشاط "سينما الفقدان" الذي أحيته
"دار الآداب" بالتعاون مع "نادي الساحة" و"الحملة
المدنية للمقاومة" مطلع الاسبوع في مسرح "بابل"
المخرج الفلسطيني مصطفى أبو علي الذي عرض اثنين من
افلامه "عدوان صهيوني" و"لا وجود لهم" من انتاج
اوائل السبعينات. ينتمي أبو علي الى الجيل المؤسس
في السينما الفلسطينية فهو أحد مؤسسي "أفلام
فلسطين"، اول وحدة سينمائية فلسطينية، عام 1968
فضلاً عن إنشائه "مؤسسة السينما الفلسطينية" في
بيروت سنة 1971ومؤسس جماعة السينما الفلسطينية في
بيروت ايضاً عام 1972. بين عمان وبيروت، أنجز نحو
عشرة أفلام كان آخرها "تل الزعتر" بمشاركة المخرج
جان شمعون عام 1977. غادر بيروت سنة 1982 مع أركان
منظمة التحرير ولم يزرها مذذاك. وبعيد توقيع اتفاق
اوسلو في 1994، عاد الى فلسطين وأعاد تأسيس مؤسسة
السينما الفلسطينية في رام الله في العام 2004
ويعمل الآن على مشروع تأسيس أرشيف للسينما
الفلسطينية وصندوق دعم لانتاجاتها. في بهو فندق
"البريستول" حيث أقام خلال أيام النشاط، طال
انتظاري له. سألت عامل الاستقبال عن رقم غرفته
فأجاب ان لا أحد باسم "مصطفى ابو علي" في الفندق.
بعد السؤال وطلب المساعدة من أحد منظمي النشاط،
توصلت الى معرفة رقم غرفته التي اتضح انها باسم
مصطفى المالحة. لا بد من ان احد الاسمين اسم حركة
وهو امر طبيعي بالنسبة الى رجل انتمى الى منظمة
"فتح" وصنع افلامه بتمويل منها. حين التقيته
أخيراً، أخبرته بالقصة فضحك كثيراً ليس من سذاجتي
وانما من الصدفة التي وضعه فيها عامل الفندق الذي
سجله باسم قريته وكانت تلك السالفة مدخلاً لحوارنا
هذا حول مسيرة مصطفى ابو علي المعروف بأنه اول من
صنع سينما الثورة الفلسطينية. ـ المالحة هي
قريتي التي وُلدت فيها في العام 1940. هي بلدة في
ضواحي القدس، حولها الاسرائيليون اليوم الى مكان
راقٍ. بيوتها متشابهة وكانت حولها في الماضي كثبان
من الرمال ولكنها لم تعد موجودة الآن. هناك ولدت
في العام 1940. هذا يعني أنك تعي النكبة؟ ـ
بالطبع أتذكرها فقد كنت في سن الثامنة. ماذا
تذكر من تلك المرحلة الطفولية؟ ـ أتذكر المدرسة
التي ألحقوني بها في سن الخامسة فكنت الطالب
الأصغر في صفي. كانت المدرسة الثانوية الوحيدة في
محيطها. وأذكر انهم كانوا يقدمون المسرحيات في
المدرسة. اما مديرها فكان شديد القسوة. يكفي ان
يقف في زاوية الملعب ليدب الرعب في الجميع. وأذكر
حادثة أليمة عندما قام بجلد طالب على مرأى من
الجميع لأنه تأخر او لسبب آخر تافه. جلده بشكل
جنوني فمات الصبي بعد يومين! ماذا عن سنة
النكبة؟ ما هي الصور التي مازالت تسكن
ذاكرتك؟ ـ أتذكر تماماً الانتقال من المالحة
الى بيت جالا التي كانت أقرب البلدات الى قريتنا.
كان ذلك في أعقاب مجزرة "دير ياسين" التي أرعبت
الجميع. قرر مختار "المالحة" ان يغادرها فكان
طبيعياً ان يتبعه الاهالي. بقيت مجموعة مسلحة كان
من بينها ابن عمي الذي اقتنى بندقية واثنتي عشرة
"فشكة". يعني ولا إشي. كنا قافلة كبيرة وكان الجو
صيفاً. وعندما وصلنا الى "بيت جالا" نصبوا منازل
من العرائش وأووا اليها ظناً منهم انهم عائدون في
غضون أسبوع. بدا الامر لنا نحن الاطفال أشبه بنزهة
"بيكنيك". ولكن النزهة طالت وبعد أسبوعين حين أيقن
الكبار ان العودة مستحيلة، انتقلنا الى "بيت لحم"
وبقينا فيها حتى العام 1952. كان تلك مرحلة قاسية
إذ توقفت الحياة على إثر الحرب. لم يكن هنالك عمل
ولا زراعة ولا طعام ولا خضر. أتذكر تماماً كيف
كانوا يذهبون من بيت لحم متسللين الى "المالحة"
ليأتوا بالعنب والثمار الاخرى. كانوا يعرضون
أنفسهم للخطر في سبيل ذلك. بعد 1952، وجد أبي
عملاً في عمان. كانت عمان صغيرة جداً في ذلك الوقت
لا تزيد على بيوت قليلة في وسط المدينة. وكانت
هنالك حركة عمرانية في بدايتها، انخرط فيها والدي
المتخصص في شؤون البناء. في عمان أنهيت الدراسة
الثانوية ثم جئت الى بيروت حيث درست الصحة العامة
في الجامعة الاميركية لسنة واحدة فقط انتقلت بعدها
للعمل في السعودية في شركة "آرامكو". هناك، جاءتني
الفرصة حيث حصلت على منحة لدراسة الهندسة في
الولايات المتحدة الاميركية في بيركلي. فسافرت
اليها في العام 1961 ومكثت فيها ثلاث سنوات ونصف
السنة. هناك اكتشفت ميولي الحقيقية. تعرفين حين
ينشأ المرء في ظل ظروف قاسية وفي مكان ليس مديني
ووسط اسرة بسيطة مدارس بدائية، لا تُتاح الفرصة له
لمعرفة نفسه او ماذا يحب او يريد. في الولايات
المتحدة، حدث ذلك التفتح على الثقافة والفنون. صرت
اشاهد الافلام وارتاد المسرح. بدأت الشخصية الفنية
تتبلور في داخلي واستهوتني الموسيقى. بالطبع لم
يوافق أصحاب المنحة ان أغير دراستي من الهندسة الى
الموسيقى لاسيما ان دراسة الاخيرة مكلفة. على
الرغم من ذلك، قُبلت في المعهد الموسيقي في سان
فرانسيسكو وأنا لا أفقه من النوتات شيئاً. كيف
حدث ذلك؟ ـ سألني عميد المعهد لماذا انا هنا
بينما المعهد مخصص لصقل المواهب المتبلورة اصلاً.
فأجبته بأنني أريد ان أقيم جسراً بيني وبين هذا
العالم وانني وجدت الموسيقى الوسيلة الفضلى. وافق
على انتسابي مشترطاً أن آخذ دروساً خصوصية مكثفة
لتعويض ما فاتني من أساسيات الموسيقى. ولكن
التكلفة كانت باهظة جداً. وبعد سنة من الدروس
الخصوصية، وجدت صعوبة في تحقيق النقلة. في الوقت
عينه كنت أرسم وأنحت ايضاً وأقرأ الشعر والادب
بكثرة. فجأة اكتشفت ان السينما التي تجمع كل
الفنون قد تكون ضالتي. ولكنني آثرت التريث لأتأكد
من صحة اختياري. فانتقلت الى مصر علّني "أعقل"
وحاولت استكمال دراسة الهندسة في جامعة القاهرة.
الا انهم أرادوني ان أبدأ من الصفر لاختلاف
المنهاج. عندها سعيت للحصول على منحة لدراسة
السينما في لندن في "مدرسة لندن لتقنيات
الفيلم". يمكن القول اذاً ان وعيك الفني تشكل
قبل وعيك السياسي؟ ـ طبعاً بوقت طويل. وتلك
ايجابية ألا تظن؟ ـ لا أعرف ان كانت
ايجابية. أقصد دخول الفن من باب الفن أفضل من
دخوله من باب السياسة؟ ـ السياسة لا تصلح
مدخلاً للفن هذا أكيد. هل كانت فكرة النضال
والقضية الفلسطينية حاضرتين في مراحل الدراسة
السينمائية؟ ـ ابداً لم أكن أفكر في أي شيء من
ذلك. كنت أفكر في نفسي فقط. متى بدأ وعيك
السياسي يتشكل؟ ـ بعد 67. كنت مازلت طالباً في
لندن. كانت الهزيمة صدمة كبيرة للعالم العربي
بأسره وللفلسطينيين بشكل خاص. أوهمونا بأنهم
سيحررون فلسطين. وعندما بدأت الحرب فرحنا ورددنا
حان وقت التحرير. فانظري ماذا حدث في ستة ايام.
كانت صدمة بالفعل. كانت الهزيمة نقطة تحول في
حياتي. بدأت أهتم بالسياسة ولفت نظري الجزء العملي
من الحركة الفدائية. بخلاف كل الاحزاب التي دأبت
على الكلام والتنظير، أقدمت الحركة الفدائية على
الفعل على أساس بسيط: هذا هو العدو إذا أردت
مقاتلته فقاتله. خلال الدراسة الثانوية، كانت
الاحزاب تتنافس على الطلاب الاوائل لتضمهم الى
صفوفها ولكنني لم أجد نفسي ميالاً الى اي منها. في
مرحلة تالية، وجدتني منجذباً الى عمل الفدائيين
لأنه نقيض عمل الاحزاب. وكنت في تلك الفترة أنهيت
دراسة السينما. فبدأت أجمع أخبار الفدائيين وأفكر
ماذا يمكن ان أصنع حول هذا الموضوع. ولكن كانت
هنالك مشكلة حقيقية تكمن في التناقض بين هذا
الموضوع وتوجهات وزارة الاعلام في الاردن حيث كنت
أعمل. أذكر انهم ارسلوا لي مرة عنصر مخابرات لتقصي
نوعية عملي. الارجح انه وجدني شاباً بسيطاً يلف
السجائر ويقوم بعمله بصمت فكتب تقريره على أساس ان
لا خوف مني! ولكنك أنجزت افلاماً كثيرة في تلك
المرحلة من انتاج التلفزيون الاردني ووحدة افلام
فلسطين في عمان. ـ خلال فترة عملي في الوزارة،
أنجزت فيلماً في عنوان "الحق الفلسطيني". لم
يعجبهم بالطبع لأن كلمة فلسطين كانت تخلق لهم
مشكلة اذ تشكك في وحدة المملكة الاردنية وأسسها
بعد انضمام الضفة الغربية اليها. كان التوجه
السياسي الاردني ان ذلك الجزء ينتمي الى المملكة
والنقاش حول فلسطين يمس ذلك. صنعت مجموعة افلام
للتلفزيون الاردني ذات موضوعات غير مريحة فكانت
تُجمد في معظم الاحيان. كان المونتاج يتم على
النيجاتيف في ذلك الوقت ولا نرى النسخة النهائية
الا على البوزيتيف. في الاردن أسست وحدة أفلام
فلسطين مع شريكين. ـ نعم كانا المصور السينمائي
هاني جوهرية الذي درس السينما معي في لندن ثم
استشهد وسلاف جاد الله التي درست التصوير
السينمائي ايضاً انما في القاهرة وربما تكون اول
النساء العربيات التي درست التصوير. شعرنا نحن
الثلاثة بأن أحداثاً مهمة تجري في المنطقة وليس من
يهتم بتسجيلها لاسيما الاحداث المتعلقة بالثورة
الفلسطينية وأعمال الفدائيين. شعرنا ان من واجبنا
تسجيل هذه اللحظات مثل التظاهرات وتدريبات
الفدائيين ويومياتهم وعملياتهم العسكرية. بدأنا
بتسجيل هذا النشاط على أمل الافادة منه لاحقاً او
حتى الاكتفاء بقيمته للتاريخ والمستقبل. هكذا كونا
وحدة أفلام فلسطين. طبعاً كانت المشكلة عدم توافر
الكاميرات والافلام فكنا نتدبر أمرنا. بدأت عملية
الارشفة هذه في العام 1968 واستمرت الى 1982.
بدأنا في عمان وأكملنا في بيروت. في مرحلة عمان،
أنجزنا فيلماً واحداً هو "لا للحل السلمي".
يوصف فيلم "لا للحل السلمي" ببداية سينما
الثورة الفلسطينية. هل كان ذلك قراراً واعياً من
جهتكم؟ بمعنى آخر، هل كنتم مدركين انكم تؤسسون
لشيء من هذا القبيل؟ ـ أكيد كان خياراً واعياً
تماماً بدأ بفكرة التسجيل والأرشفة وأكمل بإنجاز
الأفلام. "لا للحل السلمي" لم يكن فيلمي فعلياً
اذا صورناه هاني وأنا ووضعنا الاطار العام للفكرة
وطلبنا من زميلنا المخرج صلاح أبو غنوم إنجازه
فجاء تقليدياً دعائياً في الوقت الذي كنت أنا فيه
مشغولاً بهواجس فنية لاسيما على أثر مرافقتي
المخرج الفنسي جان لوك غودار خلال زيارته الأردن.
وقتها كان مصاباً بلوثة الثورة. تحدثنا كثيراً
وناقشنا فكرة تطوير لغة سينما المقاومة. اليوم
قد يبدو هذا الفيلم وكأنه ضد السلام ولكن المقصود
به وقتذاك كان رفض مبادرة روجرز. ولم يكن ذلك
موقفنا الشخصي بل موقف منظمة التحرير. نحن لم نكن
سياسيين. كنا نعرف حدودنا وننقل الآراء
السياسية. ولكن هذا غريب أقصد ألا يكون لديك
موقف سياسي على الرغم من ان خياراتك السينمائية
كانت سياسية لجهة تسخير سينماك لخدمة القضية
الفلسطينية. فأنت أنجزت أفلامك لحساب حركة فتح.
ألم يشعرك هذا في اي وقت أنك تجير أفلامك لمصلحة
فريق سياسي؟ ـ دعيني أخبرك شيئاً. نحن كنا مع
حركة "فتح" وميزة "فتح" انها لا تطلب من أعضائها
تبني اية فكرة. كانت حركة وطنية عامة تقوم على
فكرة اساسية: اذا كنت ترغب في النضال من أجل
فلسطين فالباب مفتوح. لذلك جذبت "فتح" أصحاب
الخلفيات الماركسية والقومية والاسلامية
والمستقلين... بالفعل هذه ميزة فتح ولو كانت غير
ذلك لما انتميت اليها. الى اليوم مازالت "فتح"
كذلك اطارا فضفاضا لكل التيارات. مرحلة لبنان.
كتى بدأت وكيف؟ ـ انتقلت الى لبنان على أثر
الصدام العسكري الذي وقع بين الاردن والفدائيين في
أيلول 1970 وعلى أثره خروج الفدائيين من عمان
وقدومهم الى بيروت. الثورة الفلسطينية كانت في
ورطة فعلية. فلكي تقاوم إسرائيل كان عليها عبور
الحدود الامر الذي لم تستسغه الأردن لأنه يهدد
أمنها فحسمت الامر عسكرياً. بقي أمام الثورة
حدودان: الحدود السورية من خلال الجولان والحدود
اللبنانية. اختارت بالطبع الحلقة الاضعف اي لبنان.
أما أنا فجئت لبنان لأنه كان المكان الوحيد الذي
نستطيع فيه ان نحمّض أفلامنا ونولفها. صورنا هاني
وأنا أحداث أيلول وحملنا ما صورناه معنا الى بيروت
وأنجزنا ما يمكن ان أسميه فيلمي الاول الحقيقي
"بالروح بالدم". هل كانت تراودك أفكار انجاز
افلام خارج اطار القضية الفلسطينية؟ ـ الجواب
عن سؤالك هو التالي: القضية الفلسطينية تحولت
جزءاً من تركيبتنا الجينية. لم يكن ممكناً الخروج
من عباءتها لتصوير قِصة حب مثلاً. كانت تجذبني
دوماً تلك المأساة المستقرة في داخلي منذ 1948. في
العام 1972 على سبيل المثال رغبت في إنجاز فيلم
روائي طويل عن رواية للروائي رشاد أبو شاور وكانت
قصة حب خلال نكبة 1948. اتفقنا مع الجزائر على
تمويله ولكن المشروع أوقفته القيادة اعتراضاً على
رشاد أبو شاور الذي كتب لاحقاً رواية انتقد فيها
القيادة. لم أعرف بتلك الحكاية الا بعد مرور عامين
عندما باح لي بها عضو القيادة المركزية الذي أوقف
الفيلم. ألم تشعر أنت بهذا التناقض بين مفهومك
للسينما وبين رؤية السياسي لها. أقصد ان تلك
الحادثة تبين تماماً هذا التناقض. الرجل قضى على
حلم سينمائي كان يراودك. بمعنى آخر، هل كنت تشعر
بقبضة "فتح" على انتاج الافلام لجهة اهتمامها
بالافلام الدعائية فقط مثلاً؟ ـ لأكون صريحاً
معك، ربما لم يهتموا بأي نوع من الافلام. مسألة
الثقافة برمتها كانت بالنسبة الى "فتح" كالنبتة
البرية. اذا نمت كان به واذا لم تفعل فإن أحداً لن
يفتقدها. لم يكن هنالك رعاية واعية للسينما. كانوا
يدعمون الافلام اما من دون تخطيط. كحركة ثورية
كانت تهمهم وكالة الانباء الفلسطينية أكثر. لم يكن
عملهم يستغرق وقتاً بينما نحن قد تمر ستة أشهر قبل
ان نخرج بفيلم. لو كان مشروعنا تلفزيونياً لربما
كان سيكون اكثر جاذبية بالنسبة اليهم. انما لله
والتاريخ، عرفات كان أكثرهم فهماً لاهمية السينما
بحدسه الخاص. حتى إنني حين قلت له عن رغبتي في
تحويل رواية إميل حبيبي "المتشائل" فيلماً أجابني
على الفور "على بركة الله". ومولت المنظمة أسفاري
الكثيرة الى تشيكوسلوفاكيا لمناقشة السيناريو.
اخيراً توصلنا الى سيناريو أعجب إميل كثيراً وكنت
على وشك البدء بالبحث عن تمويل له عندما اندلعت
حرب 82 ووقع خراب البصرة. خرجت من بيروت مجدداً
الى ترحال جديد يبدو أنه كان الأعنف إذ قطع مسيرتك
السينمائية الى يومنا هذا. ـ هذا صحيح. على أثر
خروجي من بيروت، انتظرت في دمشق ستة أشهر للحصول
على تصريح لدخول عمان. وفي عمان، قضيت عشر سنوات
من دون جواز سفر عقاباً لي على العمل مع المنظمة.
انقطع التواصل تماماً ولم تكن هنالك امكانية
لانجاز الافلام فاقترضت المال وأنشأت استديو
تلفزيوني. بعد اتفاق اوسلو، بعت كل شيء، سددت
ديوني وعدت الى فلسطين. بعد كل ذلك الغياب عن
فلسطين، يبدو لي ان فكرة معاودة صنع الافلام فيها
مسألة بديهية. ولكنك لم تعد الى السينما.
لماذا؟ ـ بالطبع كانت لدي دوافع قوية وربما
كانت تلك الدوافع خلف عودتي الى فلسطين. بالفعل
كتبت سيناريوين ولكنني لم أتمكن من تمويلهما.
عندما عدت الى رام الله، كانت الانتفاضة الثانية
في بدايتها. فرصدت كل تفاصيلها ووضعت سيناريو
عنها. كان صعباً تمويله اوروبياً. بعد عودتك
الى فلسطين، هل كان مشروع سينما الثورة الفلسطينية
قد وصل الى نهايته بالنسبة اليك؟ ـ عندما أنجزت
تلك الافلام في الستينات والسبعينات، كنت أعبر عن
قناعاتي. بعد عودتي الى فلسطين، شعرت انني استهلكت
طاقتي في الفيلم التسجيلي. بل انني بدأت أشعر بذلك
قبلها بكثير ربما منذ العام 1978 وعندها قدمت
استقالتي من مؤسسة أفلام فلسطين لم يقبلوها بالطبع
ولكنهم كانوا يسمحون بنظام "الحَرَد" اي أنني أحرد
الى ما أشاء. ولكنني كنت بالفعل محبطاً سينمائياً
لأن الفيلم الوثائقي لم يستطع ان يعبر عني تماماً
فضلاً عن آن رعاية السينما كانت فقيرة جداً. لكل
ذلك، لم تكن لدي رغبة العودة الى السينما
الوثائقية ولكن وجدتني في المقابل مدفوعاً من جديد
الى الروائي. قبل فترة وجيزة فقط أعادني موضوع
هام الى التفكير بانجاز فيلم وثائقي من جديد هو
التطهير العرقي في فلسطين عن كتاب لكاتب
اسرائيلي. هل كان النوع الوثائقي عموماً ينفّرك
ام نوعية الافلام التي صنعتها لاسيما ان الفيلم
الوثائقي عرف تحولات كثيرة خلال العقدين
الاخيرين؟ ـ أظن الوثائقي عموماً. أنا تجريبي
بطبعي وهذا موجود حتى في افلام تلك المرحلة. شعرت
انني جربت واستهلكت طاقتي. الى اي مدى خدمت
سينما الثورة الفلسطينية القضية الفلسطينية؟ وهل
تظن ان هذا الشكل من السينما الذي مازال يتجلى في
افلام كثيرة اليوم مجدٍ؟ ـ لا أستطيع ان أحدد
الى اي مدى خدمت تلك الافلام القضية. عندما كنا
نصنع فيلماً كنا نطبع مئة نسخة منه ونرسلها الى
قيادات المنظمة في العالم. طبعاً كانت تخدمهم
لاسيما امام الاجانب. ساعدت تلك الافلام في نقل
صورة الواقع. اليوم الامر مختلف تماماً بدخول
التلفزيون والفضائيات. "عدوان صهيوني" مثلاً لم
يكن هنالك من نقل احداثه سوى نحن في الفيلم. في
تلك المرحلة، كنا نقوم بدور التلفزيون والسينما في
آن ومن دون تفكير. اليوم التلفزيون أقدر على نقل
الاخبار وتغطية الاحداث. لذلك فإن السينما يجب ان
تذهب الى الاماكن التي لا يذهب التلفزيون اليها
لاسيما القصص الانسانية. المرحلة كلها تغيرت.
فضلاً عن ان الكفاح المسلح الذي كان وسيلة النضال
في السبعينات استبدل اليوم بالمفاوضات السلمية
وبالنضال الشعبي. هناك بعض التنظيمات الفلسطينية
الذي مازال يؤمن بالكفاح المسلح ولكن حتى هؤلاء
بدأوا يميلون الى النضال السلمي. ويجب هنا ان نذكر
نموذج قرية بلعين القريبة من رام الله التي ينظم
اهلها منذ ثلاث سنوات على التوالي مظاهرة اسبوعية
يشارك فيها اليسار الاسرائيلي ويواجهون في كل مرة
الغاز المسيل للدموع والرصاص المطاط ولكنهم يعودون
في الاسبوع المقبل وكل ذلك احتجاجاً على الجدار
الفاصل وقد تمكنوا من ازاحته نسبياً عن
ارضهم. النضال السلمي الشعبي في طريقه الانتشار
لأن النضال المسلح ضد دولة متفوقة على كل العالم
العربي معادلة غير متكافئة. هل يعني هذا انك ضد
العمليات الانتحارية؟ ـ انا ضدها بالمطلق. ضد
قتل المدنيين اياً كانوا بالمطلق. هل وصفك بأبي
السينما النضالية يحددك ويصنف افلامك في خانة
ضيقة؟ ـ ربما لأني لم أصنع افلاماً خارج تلك
الصيغة. ولكنني لا أمانع تلك التسمية ولا أشعر
انها تسيء الي. ولكن اذا حققت مشروعي الجديد فقد
يختلف الامر لأنه سيكون خارج هذا
الاطار. الكفاح المسلح كان موضة النضال والتيار
الثقافي العام في المنطقة في الستينات
والسبعينات. كيف تنظر الى السينما الفلسطينية
اليوم؟ ـ انا سعيد بالجيل الثاني من
السينمائيين مثل نزار حسن وهاني ابو أسعد وغيرهما
وكذلك الجيل الثالث من الشباب الاصغر سناً وميزتهم
انهم يعملون خارج القيود الانتاجية والايديولوجية
التي خضعنا نحن لها. بما انك ذكرت حسن وأبو
أسعد وهما من فلسطينيي الداخل كيف كنتم تنظرون الى
تلك الفئة من الشعب الفلسطيني في الستينات
والسبعينات؟ ـ كانت النظرة قاسية والشعور
بالاختلاف كبير. فلسطينيو الداخل كانوا منعزلين عن
العالم الى ما بعد 1967. لم تكن لهم صلة بأي عربي
وكان الفلسطينيون والعرب يرفضون مصافحتهم اذا
التقوا في الخارج. حتى محمود درويش كانوا يرفضون
مصافحته بحُجة انه يملك جواز سفر اسرائيليا وكأنهم
حرروا فلسطين وخيروه بين جواز السفر الاسرائيلي
والفلسطيني فاختار الاول! هناك واقع فلسطيني
يفرض نفسه على كل شيء. ولكننا في المقابل حين نقرأ
"المتشائل" مثلاً لاميل حبيبي، نشعر انه قدم رؤية
مستقبلية. هل تعتقد ان السينما الفلسطينية استطاعت
تقديم رؤية مستقبلية لهذا الصراع كاجتهاد
ابداعي؟ ـ كلا لم تستطع. ربما لخصوصية الانتاج
السينمائي ومتطلباته. الشعر او الادب لا يحتاجان
الى ما تحتاج السينما اليه من تمويل ومصاريف
باهظة. ولكن للمسألة وجه آخر هي علاقة المبدع
سواء اكان كاتباً او شاعراً او سينمائياً بواقعه
ومسافته من ذلك الواقع المتبدل وموقفه منه. ـ
يعتمد هذا على وعي المخرج وهواجسه. ربما كانت لدي
تلك الهواجس من دون ان ادري وهي محاولة الافلات من
قبضة الواقع. سؤالي الاخير عن عودتك الى بيروت.
كيف تشعر الآن هنا؟ ـ عندما خرجت كان الوضع
مختلفاً تماماً. كنا منهكين وجائعين ومحبطين. الآن
أنا سعيد جداً بعودتي لأنني أعشق بيروت وأعتبرها
أجمل عاصمة عربية ولو استطعت لاخترت العيش فيها.
فيها شيء من فلسطين ولا أشعر بالغربة نهائياً في
بيروت. ارى فيها ذلك النمط من الحياة الحر
والمتحضر الذى أرتاح اليه. باقي المدن العربية اما
محجبة الوجوه واما محجبة العقول واما الاثنان
معاً. وهناك ايضاً جانب الحنين الى مرحلة الشباب
التي عشتها هنا.
|